ما وراء الإنكار: كيف تُفنّد فطرة الإنسان المادية الإلحادية

ملخص: المقال يتعمق في دحض الإلحاد، مبدأً من كتاب "دليل الملحد إلى الحقيقة" لألكس روسينبريغ، الذي ينكر فيه وجود الخالق ويقدم سلسلة من الإجابات المادية عن أسئلة وجودية مثل معنى الحياة ووجود الروح. يكشف المقال كيف أن آراء روسينبريغ تصطدم مع الفطرة الإنسانية التي تتوق للمعنى والارتباط بالأبدي، وكيف أن النظام الدقيق في الكون يدحض فكرة الصدفة العمياء ويؤكد على وجود خالق حكيم. يستعرض المقال أيضًا كيف أن الإلحاد يفشل في تفسير الوعي والإرادة الحقيقية للإنسان بمنظور مادي، ويعزز هذا بمشكلة الوعي الصعبة. أخيرًا، يناقش المقال الأسس الأخلاقية وكيف أن الفطرة الإنسانية ترفض النسبية الأخلاقية التي يعتنقها الملحدون، مما يبرز الفجوة بين النظريات الإلحادية والفطرة السليمة.

 

المقدمة

في كتابه "دليل الملحد إلى الحقيقة"، يعرض الملحد ألكس روسينبريغ - بروفسور الفلسفة - ما يراه إجابات قاطعة على بعض أعمق الأسئلة التي شغلت البشرية عبر العصور. يشرع روسينبريغ بإنكار وجود الخالق، وهو الأساس الذي يرتكز عليه لبناء بقية مزاعمه. فهو يطرح الأسئلة ثم يجيب عليها كالتالي:

"- هل هناك إله؟ لا.

- ما حقيقة الطبيعة؟ ما تقوله الفيزياء.

- ما الهدف للكون؟ لا شيء.

- ما الهدف من الحياة؟ كذلك لا شيء.

- لماذا أنا هنا؟ مجرّد صدفة عمياء.

- هل ينفع الدعاء؟ بالطبع لا.

- هل هناك روح؟ وهل هو أزلي؟ هل تمزح!؟

- هل هناك إرادة حرّة؟ أبدًا!

- ماذا يحصل بعد الموت؟ كلّ شيء كالعادي إلا أننا غير موجودين.

- ما الفرق بين الصواب والخطأ، والطيب والخبيث؟ لا يوجد فرق أخلاقي بينها.

- لماذا ينبغي أن أكون أخلاقيًا؟ لأن الأخلاقي يشعر بشعور أفضل من الذي هو غير أخلاقي".

إن إنكار وجود الإله هو الزاوية الأساسية التي تدور حولها هذه الإجابات، وهو الذي يحول الحياة إلى وجود بلا معنى، وينفي الإرادة الحقيقية للإنسان، ويجحد الفروق الأخلاقية بين الصواب والخطأ.

وهذه هي النتائج الحتمية للإلحاد كما أكّد الملحد وليام بروفين – بروفسور تاريخ العلوم إذ قال: "يبدأ الأمر بالتخلي عن الإيمان بالإله الفاعل في الوجود، ثمّ يتمّ التخلي عن الأمل في حياة بعد الموت. عندما تتخلى عن الأمرين السابقين، تأتي الأمور التالية في التتابع بصورة سلسلة. تتخلى عن الإيمان بالأخلاق الكامنة في الوجود. وأخيرًا تصل إلى أن ليس للإنسان إرادة حرة. إذا كنت تؤمن بمذهب التطور، فليس لك أمل أن توجد أي إرادة حرة. لا يمكن البتة أن يوجد أي معنى عميق في الحياة. نحن نحيى ونموت، وسننتهي بصورة كلية عندما نموت"[1].

في هذا المقال، سنناقش كيف أن هذه النظرة المادية تتعارض مع فطرة الإنسان العميقة، التي تشعر بوجود معنى للحياة، وتحسّ بالفرق بين الخير والشر، وتدرك وجود إرادة حقيقية لدى الإنسان. فمهما جادل الملحد بحججه الواهية، فإنّ فطرة الإنسان تأبى قبول ما يذهب إليه.

 

نظام الكون ومعنى للحياة

في عرضه الذي يجسّد وجهة نظر المادية الإلحادية، يُقدّم ألكس روسينبريغ إجابات متسلسلة تشكل سلسلة مترابطة من النفي، يطرح فيها:

- "ما الهدف من الكون؟" فيجيب: لا شيء.

- "ما الهدف من الحياة؟" فيُصرّ على: لا شيء.

- "لماذا أنا هنا؟" فيختمها بـ: مجرد صدفة عمياء.

هذا التتابع في الإجابات يصوّر الوجود الإنساني كأنه بلا غاية، وينظر إلى الكون على أنه مجرد حدث عشوائي بلا معنى. ومع ذلك، يقف هذا التصور موقفًا متناقضًا مع ما نراه بأعيننا وندركه بفطرتنا عن الكون ونظامه. إذا كان الكون وليد الصدفة العمياء، كما يزعم، لكان من المنطقي أن نشهد الفوضى تعمّ أرجاءه، لكن الواقع يخبرنا بغير ذلك تمامًا؛ الكون يبدي نظامًا دقيقًا وإتقانًا يفوق الوصف، مما يشير إلى أن هناك خالقًا حكيمًا خلق هذا الإتقان البديع.

هذا النظام العظيم الذي نراه في الكون، من ترتيب الذرات وحتى تنظيم المجرات، يتحدى فكرة العشوائية ويؤكد أن وراء هذه الدقة خالقًا عليمًا حكميًا. الكون لا يُظهر مجرّد تناسقًا عابرًا، بل يعرض تنظيمًا يتسم بالاستمرارية والاعتمادية، مما ينفي فكرة أن مجرد الصدفة قادرة على خلق مثل هذا النظام الهائل والمعقد.

وقد قال تعالى: (مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ) [الملك: 4]. والمقصود بالتفاوت في هذه الآية هو: النقص. فليس في خلق الله نقص؛ قال العلامة السعدي في تفسير هذه الآية: "وإذا انتفى النقص من كل وجه، صارت حسنة كاملة، متناسبة من كل وجه، في لونها وهيئتها وارتفاعها، وما فيها من الشمس والقمر والكواكب النيرات، الثوابت منهن والسيارات. ولما كان كمالها معلومًا، أمر [الله] تعالى بتكرار النظر إليها والتأمل في أرجائها"[2].

منذ أزمان بعيدة، كان الإنسان يدرك بحسّه الفطري النظام البديع الذي يغمر الكون في كل ناحية، نظامٌ يتجلى بروعة لا مثيل لها في كل زاوية من زوايا الوجود. ومع مرور الزمن وتطوّر العلم، أضحى هذا الإدراك أكثر وضوحًا وتحديدًا. يشهد على هذا بول ديفيس - بروفسور الفيزياء الأمريكي  - الذي يُعلي من شأن هذا النظام الكوني الرائع، مؤكدًا على أن ما نشهده من انتظام في الكون يعكس حقيقة أساسية، أعمق وأرسخ من مجرد تفاعلات عشوائية: "نظام الكون يبدو أمرًا بديهيًا. حيثما نظرنا، من المجرّات البعيدة إلى أعمق فراغات الذرة، نواجه الانتظام والتنظيم المعقّد. نحن لا نرى المادة أو الطاقة موزّعة بطريقة عشوائية، إنها على خلاف ذلك مرتّبة بصورة هرمية: ذرات وجزيئات، وبلّورات، وكائنات حيّة، وأنظمة كوكبية، ومجموعة نجمية، وهكذا. أضف إلى ذلك أنّ سلوك الأنظمة المادية ليس عشوائيًا، وإنما هو قانوني ومنهجي"[3].

إن التنظيم البديع الذي يحيط بنا يتناقض صراحةً مع ادعاءات روسينبرغ، الذي يزعم أن الكون هو نتيجة لمصادفة عابرة. في الحقيقة، يدرك الإنسان بفطرته العميقة أن هذا النظام المتقن لا يمكن أن يكون ثمرة الصدفة والفوضى؛ بل هو دليل قاطع على وجود الخالق. وهذا هو ما ذكره جون هوتن – بروفسور الفيزياء في جامعة أكسفورد - بقوله: "النظام اللافت للنظر، والاتّساق، والموثوقية، والتعقيد العلمي للكون، انعكاس للنظام والاتساق والموثوقية في الفعل الإلهي"[4].

النظام البديع الذي يسود الكون يشهد بقوة، والفطرة الإنسانية تصدح، مؤكدةً أن وجودنا ليس نتيجة صدفة عارضة، وأن الحياة لا تخلو من معنى وغاية. إن كل ما خلقه الله في هذا الكون، من أدق الذرات إلى أعظم المجرات، موصول بحكمة بالغة. فكيف يمكن إذًا أن تكون حياتنا، نحن البشر، بلا هدف أو معنى؟ إن الله، الخالق الحكيم، قد خلقنا لغاية عظيمة وواضحة، وقد بين لنا هذه الغاية في كتابه الكريم، حيث أوضح سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].

هذه الآية الكريمة تكشف لنا أن العبادة ليست مجرد فعل ديني، بل هي جوهر وجودنا والغاية العظمى من خلقنا. وبهذا، تُعلي حياتنا فوق مجرد الوجود العابر إلى معنى أسمى وغاية أكبر، مما يمنح كل لحظة من لحظات حياتنا قيمة وأهمية روحية عميقة.

والملاحدة يدركون جيدًا أن الطبيعة في غاية الروعة، وأنّ ذلك يتعارض مع القول بعشوائية وجوده. فها هو الملحد الفيزيائي المشهور ستيفن وينبرغ يقول: "علي أن أعترف أن الطبيعة تبدو لي أحيانا أجمل بكثير مما ينبغي لها أن تكون"[5]. أنتوني فلو – بروفسور الفلسفة – الملقّب بالأب الروحي للإلحاد ألّف كتابه: (هناك إله: كيف غيّر أشرس ملحد رأيه) بسبب إدراكه أنّ نظام الطبيعة كله شاهد بوجود خالق عليم حكيم.

والبشر – مسلمهم وكافرهم - يعرفون جيدًا أنّ الحياة لا بدّ لها من معنى. وقد صنّفت مكتبة الكونغرس كتاب: (بحث الإنسان عن المعنى) أحد عشرة الكتب أكثر تأثيرًا في الولايات المتحدة[6]. والمؤلف فيكتور فرنكل أسّس نظرية متكاملة في معالجة المرضى النفسيين المعروفة بـ(العلاج بالمعنى)، حيث يساعد الطبيب النفساني المريض للبحث عن معنى في حياته.

 

الإيمان وقوة الدعاء: تفنيد الادعاءات المادية

في طرحه الجريء، يزعم ألكس روسينبريغ أن الدعاء لا طائل منه. يُبدِي هذا القول نظرة سطحية تفتقر إلى الفهم العميق لجوهر الإيمان بالله؛ إذ من الطبيعي ألا يجد من ينكر وجود الخالق قيمة في التوجه إليه بالدعاء. لذلك، قد يعكس هذا الادعاء تجربته الشخصية بأن الدعاء لا يجدي نفعًا بالنسبة له شخصيًا، لكن هل يمكن تعميم هذه التجربة على الآخرين؟ هل الدعاء لا ينفع حقًا؟

الواقع يشهد بخلاف ذلك؛ إذ تعج الحياة بشهادات لا تُعد ولا تُحصى من المؤمنين الذين وجدوا في دعائهم سندًا واستجابة من الله. والعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي (رحمه الله) يُلخص هذه الحقيقة بقوله: "ومن براهين ربوبيته ووحدانيته: إجابته للدعوات في كلّ الأوقات، فلا يحصي الخلق ما يعطيه السائلين، وما يجيب به أدعية الداعين، من برّ وفاجر، ومسلم وكافر. تحصل للعباد المطالب الكثيرة ولا يعرفون لها شيئًا من الأسباب سوى الدعاء والطمع في فضل الله والرجاء لرحمته. هذا برهان مشاهد في كلّ الأوقات، لا ينكره إلا مباهت جاحد"[7].

إن فائدة الدعاء هي حقيقة يشهد لها العدد الهائل من الأشخاص ويدركون بفطرتهم السليمة، أن الاستجابة التي حظوا بها هي بفضل الله تعالى.

ومن الجدير بالذكر أن كثيرًا من الملاحدة، حتى الذين ينكرون فائدة الدعاء في السراء، غالبًا ما يجدون أنفسهم يلجؤون إلى الدعاء عند الشدائد. يُعبر عن هذه الظاهرة في الغرب بالمقولة المعروفة: "لا يوجد ملاحدة في الخنادق". ففي لحظات الأزمات العميقة، يتجه الإنسان بفطرته إلى خالقه، ساعيًا إلى الفرج والسلوى. وقد بيّن الله تعالى هذه الحالة الإنسانية في قوله: (وَمَا بِكم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) [النحل: 53 - 54].

وإجابة الدعاء من أعظم أسباب إيمان كثير من الملاحدة. فرغم إلحادهم في الظاهر، لجؤوا إلى الله في وقت الشدّة، فأجاب الله دعاءهم وآمنوا بعد ذلك. والقصص الواقعية في ذلك يصعب حصرها، ولكن ننصح بالاستماع إلى قصة الطبيب الأمريكي لوارنس براون، الذي كان ملحدًا، ثم كانت ابنته على فراش الموت بسبب مرض أصابها، فدعا الله وشفاها الله من ذلك المرض. وكان ذلك من أسباب إيمانه بالله أولًا، ثم اعتناقه الإسلام بعد ذلك. وننصح بالاستماع إلى قصته الجميلة على هذا الرابط[8].

فالخلاصة أنّ ما يقوله روبينبرغ من أنّ الدعاء لا ينفع مجرّد تشغيب، ولا يدعم إلحاده. بل كثير من الملاحدة – وربما هو بنفسه – في وقت الشدّة يلجؤون إلى ربّهم ويدعونه تضرعًا وخفية.

 

الإرادة، الوعي، والأبدية: دحض الفلسفة المادية من منظور إسلامي

استمرّ روسينبرغ في طرح إجاباته عن الأسئلة الوجودية:

- هل هناك روح؟ وهل هو أزلي؟ هل تمزح!؟

- هل هناك إرادة حرّة؟ أبدًا!

- ماذا يحصل بعد الموت؟ كلّ شيء كالعادي إلا أننا غير موجودين.

ترتبط هذه الأسئلة بعضها ببعض بشكل وثيق، فمن ينكر وجود الروح في الإنسان يجد نفسه مضطرًا لإنكار الإرادة الحقيقية للإنسان أيضًا. وذلك لأنه يقصر الوعي على مجرد التفاعلات الكيميائية داخل الدماغ، منتزعًا من الإنسان قدرته على التحكم في أفكاره وأفعاله. ومن هنا، يستتبع ذلك إنكار وجود حياة بعد الموت؛ فإن الدماغ، حسب هذه النظرة، يتوقف عن العمل بموت الإنسان، وبدون روح تستمر بعد الموت، يصبح مفهوم الحياة بعده غير ذي معنى. وهكذا، تكتمل الصورة المتشابكة للمذهب المادي الإلحادي الذي يحصر الوعي الإنساني في أحيائية الدماغ، مُهملاً بذلك وجود الروح والإرادة الحقيقية والحياة الأخروية.

ومع ذلك، هل تشعر بشكل فطري أنك تمتلك إرادة حقيقية، وأنك قادر على اتخاذ القرارات بنفسك؟ هل تدرك بأنك اخترت قراءة هذا المقال بإرادتك؟ ألا تحس بأن هناك شيئًا أعمق بكثير في داخلك يتجاوز مجرد التفاعلات الكيميائية في الدماغ؟ هذا هو روح الإنسان، الذي يمنحنا الشعور بالوجود والحياة، وينبض في أعماقنا بالأفكار والمشاعر.

لا يمكن تفسير الوعي ماديًا أبدًا، بل علماء الأعصاب يعترفون بذلك ويسمّون وجود الوعي في الإنسان بمشكلة الوعي الصعبة (The Hard Problem of Consciousness)؛ قال الدكتور دانيال بور – عالم الأعصاب في جامعة كامبردج: (هناك الكثير من المشاكل الصعبة في العالم، ولكن هناك مشكلة واحدة فقط تستحق أت تسمي نفسها بـ(المشكلة الصعبة). تلك المشكلة هي مشكلة الوعي الصعبة: كيف لـ1300 جرامًا من الخلايا العصبية أن يستحضر ذلك الخليط من الأحاسيس والأفكار والذكريات والمشاعر التي تشغلنا في كل لحظة من لحظات يقظتنا ... المشكلة الصعبة لا تزال بدون حلّ)[9].

إن المعضلة التي يواجهها المنظور المادي في تفسير الوعي تبقى بلا حل؛ فالإنسان، بتركيبته المزدوجة من روح وجسد، يعتبر لغزًا لا يمكن فك رموزه بالاعتماد على الأسس المادية فحسب. علماء الأعصاب، رغم تقدمهم، يجدون أنفسهم عاجزين عن التعمق في أسرار الروح، إذ تتجاوز طبيعتها حدود مجالهم البحثي الذي ينحصر في الملموس والمحسوس. وأما الروح فهي جزء من الغيبيات التي أودعها الله؛ يقول تعالى في محكم آياته: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 85]. وهكذا، مهما امتدت يد العلم لاستكشاف جسد الإنسان، تظل حقيقة الروح مستترة، مما يؤكد أن الإنسان بأسراره لا يمكن اختزاله في جوانبه المادية وحدها.

تبعًا لذلك، فإن الإيمان بالحياة الأخروية يتجذر في هذا الفهم العميق للروح كجزء لا يتجزأ من الوجود الإنساني والذي يستمر بعد الموت. إذ يؤكد الدين أن الحياة الدنيا ليست إلا مرحلة مؤقتة يتبعها وجود أبدي يكون فيه للروح دورها الخالد، مما يعزز فهمنا للحياة والموت كجزء من سياق أوسع محدد بحكمة الخالق.

ويقال في ختام مناقشة الملحد في قضية الإرادة: هل أنت فعلًا تعتقد بما تقول؟ إذا كان كذلك، فلماذا يحاول الملحد إقناع الآخرين بإلحاده إذا لم تكن لديهم إرادة حقيقية في اختيار الإلحاد؟ لماذا ألّف روسينبرغ كتابه: دليل الملحد إلى الإلحاد؟ ماذا يريد أن يدلّه عليه إذا كان لا يستطيع أن يختار ذلك؟ ولماذا يستمرّ الملاحدة في الإنكار على تصرّفات المتديّنين؟ أليسوا مجبورين على هذه التصرّفات؟ الواقع يشهد أنّ الملحد يقرّر هذه العقيدة بناء على إلحاده المادي، ولكن فطرته تأبى ذلك كل الإباء.

 

الفطرة تتحدى: النقد الأخلاقي للمذهب المادي في فلسفة روسينبرغ

في نهاية الجدل الذي يثيره روسينبرغ، يطرح سؤالين محوريين يتردد صداهما في أرجاء فلسفته:

- ما الفرق بين الصواب والخطأ، والطيب والخبيث؟ لا يوجد فرق أخلاقي بينها.

- لماذا ينبغي أن أكون أخلاقيًا؟ لأن شعورك تكون أفضل من أن تكون غير أخلاقي.

يصرح روسينبرغ بأنه لا يوجد تفريق أخلاقي بين أفعال كقتل الأطفال وممارسة الطب، أو بين أفعال الطغاة والمصلحين. فكيف يستقيم عنده تأكيد أهمية الأخلاق إذا كان يعتقد أن الأفعال جميعها متساوية أخلاقيًا؟ هل تتوافق أنت مع هذا الطرح، أم أن فطرتك تنبذه بشكل غريزي كونه خارجًا عن دائرة الصحة؟ موقفه هذا يتماشى مع إلحاده، لكن الفطرة التي فطر الله عليها البشر تناقضه بقوة.

والغريب والعجيب أنّ الملحد نفسه يعرف بفطرته أنّ هذا التقرير غير صحيح. فها هو الملحد بيتر كاف أستاذ الفلسفة يردّ على تلك الحجج ويعبّر عن فطرته أنها غير صحيحة فيقول: "مهما كانت الحجج الشكوكية التي يؤتى بها ضدّ إيماننا أن قتل البريء قبيح أخلاقيًا، يبقى الأمر أنّ ثقتنا في أن القتل أمر قبيح أخلاقيًا أعظم من ثقتنا في أنّ الحجةّ [المعارض] سليمة ... تعذيب طفل بريء لمجرّد المتعة أمر خاطئ أخلاقيًا. نقطة، فلا جدال"[10].

فهو يعرف أنّ الحجج الشكوكية لإخوانه الملاحدة واضحة في أنّ قتل الطفل البريء من أجل المتعة ليس قبيحًا أخلاقيًا، ولكن فطرته تأبى هذا الموقف. ومع ذلك، فإنّه لا يستطيع أن يبرّر هذا الموقف من وجهة نظره الإلحادية، وإنما ينهي النقاش. ولكن هل لديه مستند من إلحاده؟ الجواب لا. وقد اعترف الملحد ريتشاد تايلور – بروفسور فلسفة الأخلاق– بذلك إذ قال: (الكتّاب المعاصرون الذين ألّفوا في الأخلاق، والذين تحدّثوا ببلاغة عن الحق والباطل الأخلاقيين والواجب الأخلاقي دون إحالة إلى الدين، لا يعدو فعلهم أن يكون نسجًا لشبكة فكرية من الهواء الرقيق، وهو يعني أنهم يتحدّثون بلا معنى)[11].

فالملحد يشعر فطريًا بأهمية الأخلاق، وأنه يوجد فرق بين العدل والظلم، ولكنه عاجز عن تفسير ذلك في ظل مذهبه الإلحادي.

 

الخاتمة:

في ضوء ما تناولناه في هذا المقال، يظهر جليًا أن الإلحاد يشكّل تحديًا مباشرًا للفطرة الإنسانية البديهية. ينطلق الإلحاد من إنكار وجود الخالق، نافيًا بذلك أساس المعنى للوجود والأخلاق والحياة الروحية، وهي مسائل تتعارض جوهريًا مع الطبيعة البشرية التي فُطِرت على التوق للمعرفة والارتباط بالأبدي. تبعات الإلحاد لا تقتصر على هذا الإنكار الجذري فحسب، بل تمتد لتشمل نفيًا شاملًا للمعاني العميقة والقيم الأخلاقية التي تُعد حجر الزاوية في الوجود الإنساني. ومع كل محاولة من الملحد لتبرير موقفه، يتكشف الفراغ الفكري والروحي الذي يعاني منه الإلحاد، كما يتجلى أن ما يُقدمه من أطروحات ليس إلا سرابًا يتبدد عند مواجهة الفطرة السليمة والأدلة الروحية الثابتة.

 

 

[1] Shadow of Oz: Theistic Evolution and the Absent God (3)

[2] تيسير الكريم الرحمن (837).

[3] God and the New Physics (145)

[4] The Search for God: Can Science Help (59)

[5] أحلام النظرية النهاية 195

[6] انظر: https://web.archive.org/web/20200428021311/https://www.nytimes.com/1991/11/20/books/book-notes-059091.html

[7] البراهين العقلية على وحدانية الربّ ووجوه كماله (25).

[8] https://www.youtube.com/watch?v=oJN1PtTOrQI

[9] New Scientist: The Collection. The Big Questions. Vol 1, Issue 1, p. 51

[10] Humanism (146)

[11] Virtue Ethics (7)