ملخص: استعرضنا في هذا المقال البرهان الكوني على وجود الخالق، والذي يستند إلى مقدمتين: أن الكون مخلوق، وكل مخلوق لا بد له من خالق. الأدلة العلمية الحديثة تؤكد أن للكون بداية، مما ينفي فكرة أزليته ويدعم الحاجة إلى خالق. استشهدنا بأقوال علماء الكون الذين أقروا بأن العلم يثبت بداية الكون لكنه لا يفسر من خلقه. كما أوضحنا أن علم الكون يجيب عن كيفية نشأة الكون وليس عن خالقه. النتيجة المنطقية لهذا البرهان تؤكد وجود خالق قادر حكيم، مما يدعو إلى الجمع بين العلم الطبيعي التجريبي والدين لفهم أعمق لوجود الكون وخالقه.
لمحة عن أزمة الملاحدة مع اكتشاف نشأة الكون
هل علمت أنّ الملاحدة كانوا من بين أشدّ المعارضين لفكرة أن الكون له بداية؟ ها هو اللأدري روبيرت جاسترو، عالم الفيزياء المرموق وأحد مدراء وكالة ناسا، عبّر عن هذا التحدي الفكري بكلمات مليئة بالدهشة والتأمل: "بالنسبة للعالم الذي عاش بإيمانه في قوة العقل، تنتهي القصة كحلم سيء. لقد تسلّق جبال الجهل، وهو على وشك أن يغزو القمة الأعلى؛ عندما يجذب نفسه فوق الصخرة النهائية، يرحّب به مجموعة من اللاهوتيين الذين كانوا جالسين هناك لقرون.[1]"
كما عبّر أرثر أدينغتون، أحد علماء الكون، عن مقاومته الفلسفية لهذا الاعتراف بقوله إن القول بأصل الكون بغيض فلسفيًا[2]. فلماذا هذا الرفض الشديد؟ لأن الاعتراف ببداية الكون يفرض بالضرورة الاعتراف بوجود خالق.
يتعمّق روبيرت جاسترو في هذه الفكرة بكلام يبرز النتائج العلمية التي تدفع العلماء إلى هذه الزاوية العلمية: "وجد علماء الفلك الآن أنهم قد حشروا أنفسهم في زاوية لأنهم أثبتوا، بطرقهم الخاصة، أن العالم بدأ فجأة في فعل خلق يمكن أن تتبع فيه بذور كل نجم، وكل كوكب، وكل كائن حي في هذا الكون وعلى الأرض. وقد وجدوا أن كل هذا حدث نتيجة قوى لا يمكنهم أن يأملوا في اكتشافها. إنّ هناك ما أسميه أنا أو أي شخص آخر قوة فوق طبيعية تعمل هو الآن، في رأيي، حقيقة مثبتة علميًا.[3]"
لقرون طويلة، تمسك الملاحدة بعقيدة أزلية الكون، مؤمنين بأنه ليس بحاجة إلى خالق لأنه ليس له بداية. ومع ذلك، مع تقدّم علم الكون في القرن العشرين، بدأت الدلائل العلمية تتكشف الواحدة تلو الأخرى، مشيرة بوضوح إلى أن الكون بأكمله له بداية محددة. هذا التطور العلمي الهائل أعاد النقاش عن بداية الكون إلى ساحة الجدل الديني - اللاديني، وجعل البرهان الكوني يبرز كأحد الدلائل القوية لإثبات وجود الخالق ولنقد الإلحاد بأسس علمية. دعونا ننظر في صياغة هذا البرهان وما يدلّ عليه.
صياغة البرهان الكوني على وجود الخالق
البرهان الكوني هو حجة عقلية علمية على وجود الخالق، وتُبنى على مقدمتين بسيطتين ونتيجة منطقية حتمية. سنستعرض هذه الحجة بطريقة مفصلة ومقنعة:
المقدمة الأولى: الكون مخلوق.
المقدمة الثانية: كل مخلوق لا بد له من خالق.
النتيجة: إذن، الخالق خلق الكون.
هذه الحجة تُعَدُّ من أبسط البراهين وأوضحها، حيث تمتاز بسهولة الفهم والإدراك، مما يجعلها في متناول الجميع، بغض النظر عن مستوى معرفتهم أو خلفيتهم العلمية، فهي تعتمد على مبادئ منطقية وعقلية بديهية يمكن لأي شخص استيعابها.
المقدمة الأولى: الكون مخلوق
تعني هذه المقدمة أن الكون وُجد من العدم. يؤكد البروفسور بول ديفيس، أحد أشهر علماء الفيزياء المعاصرين، ذلك بقوله: "إن ظهور الكون إلى الوجود، كما نوقش في العلم الحديث... ليس مجرّد مسألة فرض نوع من التنظيم... لحالة سابقة مفككة، إنما يعني حرفيًا: بروز جميع الأشياء المادية إلى الوجود من لا شيء"[4].
تعزز الأدلة العلمية القاطعة هذا الفهم بأن للكون بداية. وكان الملحدون يرفضون هذه الفكرة، لكن مع توافر الأدلة المختلفة، أصبح من المستحيل إنكارها. وقد سعى بعض علماء الكون جاهدين لإيجاد بدائل لفكرة نشأة الكون من العدم، إلا أن جميع محاولاتهم باءت بالفشل. وقد أشار إلى ذلك البروفسور ألكسندر فيلنكن، وهو من أبرز علماء الكون المعاصرين، قائلاً: "الآن مع وجود الدليل، فلم يعد ممكنًا لعلماء الكونيات أن يختبئوا وراء إمكانية وجود كون أزلي الوجود. لا مناص من مواجهة مشكلة البداية الكونية"[5].
إن الاكتشافات العلمية، مثل توسّع الكون وإشعاع الخلفية الكونية الميكروي، تدعم بقوة فكرة أن الكون له بداية. هذا يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الكون ليس أزليًا، بل له بداية محددة في الزمن.
المقدمة الثانية: كل مخلوق لا بد له من خالق
هذه المقدمة مبنية على مبدأ السببية، وهو مبدأ فطري وضروري لا يحتاج إلى برهان إضافي. فهذه المبادئ يستدل بها، ولا يستدل لها؛ قال العلامة المعلمي (رحمه الله): "أما القضايا الضرورية والبديهية؛ فقد اتفق علماء المعقول أنها رأس مال العقل، وأنّ النظر إنما يرجى منه حصول المقصود ببنائه عليها، وإسناده إليها"[6]. ولوضوح مبدأ السببية، يمكننا استخدام مثال بسيط: إذا وجدت إبرة طبية صغيرة في الفلاة، فهل يمكن أن تصدق بأنها ظهرت من العدم؟ بالطبع لا. هل يلزمك أنك ترى من صنع الإبرة؟ لا. لو قال لك أحد إن الإبرة ظهرت بنفسها صدفة، ماذا تقول عنه؟ تعدّ أن فيه خللًا في عقله. فإذا كان من المستحيل تصور أن إبرة صغيرة ظهرت من العدم، فكيف يمكننا أن نقبل أن الكون العظيم، بجميع مجراته ونجومه وكواكبه، ظهر من العدم؟
إن مبدأ السببية يقضي بأن لكل شيء سبب، وهذا يشمل الكون بأسره. إذا كان للكون بداية، فإنه يحتاج إلى سبب لخروجه إلى الوجود.
النتيجة: لا بد من وجود خالق
بناءً على المقدمتين السابقتين، نستنتج أنه لا بد من وجود خالق للكون. يمكن أن نستنبط عقليًا أن هذا الخالق متصف بالقدرة، والعلم، والحكمة، والإرادة. فخلق الكون بكل ما فيه من دقة وتنظيم يتطلب قدرة فائقة، وعلمًا شاملاً، وحكمة بالغة، وإرادة نافذة.
وأما الإيمان التفصيلي بأسماء وصفات هذا الخالق فهي من الأمور التي يستند فيها إلى الوحي؛ فالوحي الإلهي يقدم لنا رؤية أكثر تفصيلًا عن صفات الخالق وأفعاله، ويكمل النتيجة المنطقية التي توصّلنا إليها خلال البرهان الكوني.
بهذا البرهان القوي، نرى بوضوح أن الكون المخلوق لا بد له من خالق. هذه النتيجة لا تترك مجالًا للشك، وتؤكد على ضرورة وجود خالق لهذا الكون، مما يفتح الباب لمزيد من التأمل والتفكر في عظمة الخالق وكمال قدرته وحكمته. في المقالات القادمة، سنستعرض المزيد من الأدلة العقلية والنقلية التي تدعم ما توصّلنا إليه، وتزيد من تعميق إيماننا بعظمة الخالق وصفاته.
فجوة المعرفة العلمية: علم الكون وسؤال الخالق
يتحجج بعض الملاحدة بأن علم الكون قد فسّر وجود الكون، وبالتالي لا حاجة للحديث عن الخالق. للرد على هذا الاعتراض، يجب توضيح الفرق الجوهري بين تفسير كيفية ظهور الكون وماهيته وبين الإجابة عن سؤال "من خلق الكون؟". علم الكون يركّز على استكشاف العمليات الفيزيائية والقوانين التي تحكم نشأة وتطور الكون، مجيبًا عن الأسئلة المتعلقة بالـ"كيف" والـ"ما هي". ويتناول هذا العلم قضايا مثل كيفية تشكّل المجرات، وما هي القوى الفيزيائية في الكون إلى غير ذلك.
ومع ذلك، يظلّ سؤال "من خلق الكون؟" خارج نطاق الإجابة التي يقدّمها العلم الطبيعي. هنا يتجلّى قول العالم اللأدري روبيرت جاسترو – الذي سبق إيراده -: "بالنسبة للعالم الذي عاش بإيمانه في قوة العقل، تنتهي القصة كحلم سيء. لقد تسلق جبال الجهل، وهو على وشك أن يغزو القمة الأعلى؛ عندما يجذب نفسه فوق الصخرة النهائية، يرحب به مجموعة من اللاهوتيين الذين كانوا جالسين هناك لقرون."
يعكس جاسترو بوضوح أن علماء الكونيات قد يتمكنون من تفسير أن للكون بداية، لكنهم لا يمكنهم أن يفسروا من الذي خلق الكون، وهذا الأمر يفتح المجال للعودة إلى الوحي الذي يعرّفنا بخالقنا.
إذن، في حين أن علم الكونيات يمكن أن يصف بداية الكون وأحداثه الطبيعية، فإنه لا يقدّم تفسيرًا نهائيًا من أوجد الكون، مما يدعو إلى ضرورة الجمع بين العلم الطبيعي التجريبي والدين للوصول إلى صورة متكاملة وشاملة لوجود الكون وخالقه.
خاتمة: الكون المخلوق ودلالة الخالق
في ضوء ما سبق من مناقشة وتحليل، يتضح بجلاء أن البرهان الكوني على وجود الخالق هو حجة قوية ومقنعة، تجمع بين البساطة والعمق. عندما نتأمل في نشأة الكون وتفاصيله المعقدة، نجد أن كل دليل علمي يشير بوضوح إلى حقيقة واحدة: لا بد لهذا الكون المخلوق من خالق. الأدلة العلمية القاطعة على بداية الكون، وتأكيد مبدأ السببية، يقوداننا إلى استنتاج لا مفر منه: هناك خالق أوجد هذا الكون بكل دقة وتعقيد.
[1] God and the Astronomers (116)
[2] On the Instability of Einstein’s Spherical World, Monthly Notices of the Royal Astronomical Society, 90, (668 - 678)
[3] A Scientist Caught Between Two Faiths: Interview With Robert Jastrow," Christianity Today, August 6, 1982
[4] Interview with Paul Davies by Philip Adams, “The Big Questions: In the Beginning”
[5] Many Worlds in One: The Search for Other Universes (176)
[6] القائد إلى تصحيح العقائد (38).