ملخص: يقدم المقال دليلين قويين على وحدانية الله: دليل الفطرة ودليل الوحي. دليل الفطرة يبين الميل الطبيعي للإنسان نحو الإيمان بإله واحد، متجليًا في براءة الأطفال وفي لحظات الشدة. أما دليل الوحي فيؤكد اتساق رسالة التوحيد عبر جميع الرسالات السماوية، من آدم إلى محمد عليهم السلام. القرآن الكريم والكتب السماوية السابقة تؤكد هذه الحقيقة. التناغم بين الفطرة والوحي يشكل أساسًا متينًا للإيمان بوحدانية الله
صوت الفطرة ونداء الوحي: رحلة في براهين وحدانية الله
1. كيف يدل ميل الأطفال الفطري نحو الإيمان بإله واحد على وحدانية الله؟
2. لماذا يعتبر لجوء الناس إلى الله في أوقات الشدة دليلًا على الفطرة التوحيدية؟
3. كيف يشكّل اتساق رسالة التوحيد عبر جميع الأنبياء دليلًا على وحدانية الله؟
4. ما هو دور الكتب السماوية، بما فيها القرآن الكريم، في تأكيد مبدأ التوحيد؟
5. كيف يمكن للجمع بين دليل الفطرة ودليل الوحي أن يقدم برهانًا قويًا على وحدانية الله؟
المقدمة:
في صمت الليل الهادئ، وفي ضجيج النهار الصاخب، يتأمل الإنسان في عظمة الكون وإتقانه. وبينما يستقر في القلب الإيمان بوجود الخالق، يبرز سؤال آخر، أكثر عمقًا وأهمية: هل هذا الخالق واحد أو هل يمكن أن يكون هناك أكثر من خالق؟
إنه سؤال الوحدانية، الذي يمثل جوهر الإيمان وأساس العقيدة. فالإقرار بوجود الله خطوة أولى، لكن إدراك وحدانيته هو القمة الشامخة التي يسعى إليها كل باحث عن الحقيقة.
في هذا المقال، نرتقي معًا درجات المعرفة، متجاوزين مسألة وجود الله لنستكشف دليلين قويين على وحدانيته. الأول هو دليل الفطرة، ذلك النداء الداخلي الذي يهمس في أعماق كل إنسان بحقيقة التوحيد. والثاني هو دليل الوحي، تلك الرسالة السماوية التي تؤكد وترسخ ما تشهد به الفطرة.
هذان الدليلان، كجناحي طائر يحلق في سماء الحقيقة، يقدمان لنا رؤية متكاملة عن وحدانية الله. فبينما تكشف الفطرة عن الميل الطبيعي للنفس البشرية نحو التوحيد، يأتي الوحي ليؤكد هذه الحقيقة ويوضحها بجلاء.
فهل أنت مستعد لرحلة فكرية لتستكشف أعماق الوحدانية؟ هيا بنا نبحر في بحر هذين الدليلين، لنكتشف معًا كيف يتناغم صوت الفطرة مع رسالة الوحي، مؤكدين حقيقة واحدة: إن الله واحد أحد، لا شريك له ولا نظير.
في الصفحات القادمة، سنتعمق في فهم هذين الدليلين، مستكشفين كيف يقدمان برهانًا قويًا على وحدانية الله، تلك الحقيقة التي تمثل جوهر الإيمان وأساس الكون.
1. دليل الفطرة:
الفطرة، تلك الغريزة الأصيلة المغروسة في أعماق النفس البشرية، تمثل شاهدًا قويًا على وحدانية الله. إنها ليست مجرد ميل عابر أو فكرة مكتسبة، بل هي جوهر الإنسان الروحي والنفسي، تدفعه نحو الإيمان بإله واحد. لنتأمل معًا في مظاهر هذه الفطرة:
أ. براءة الطفولة والفطرة الأصلية:
تأمل معي في حديث النبي محمد ﷺ: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" [البخاري: 1385، ومسلم: 2658]. هذا الحديث يكشف حقيقة جوهرية: أن الإنسان يُولد على فطرة التوحيد الخالص.
لنتأمل في طفل صغير، قبل أن تشكله تأثيرات المجتمع أو التعليم. ألا نجده يميل بشكل طبيعي وتلقائي إلى الإيمان بقوة عليا واحدة؟ تساؤلاته الأولى عن أصل الكون ومن خلقه تعكس هذا الميل الفطري نحو التوحيد. إنه لا يسأل عن آلهة متعددة، ولا يتخيل صراعًا بين قوى إلهية مختلفة، بل يبحث عن خالق واحد، قوي وحكيم.
هذه الفطرة التي يتحدث عنها الحديث ليست مجرد استعداد محايد، بل هي ميل إيجابي نحو الإسلام بمعناه الشامل - الخضوع لله الواحد. فالطفل مفطور على التوحيد، وليس على الشرك أو الديانات الأخرى التي تشوب صفاء التوحيد.
وهذا ما أكّدته الدراسات النفسية الحديثة؛ فقد قال البروفسور جاستن باريت - المتخصص في هذا المجال - عن خلاصة أبحاثه المتعلقة بفطرة الأطفال: «وبغضّ النظر عن الثقافة ودون الحاجة إلى تلقين بالإكراه، ينمو الأطفال بنزعة للبحث عن معنى محيطهم وفهمه، وعند منح المجال لتطوّر عقولهم ونموّها طبيعيًا يؤدّي بهم هذا البحث إلى اعتقاد بعالمَ مصمّم له غاية، وأن صانعًا حكيمًا قد صمّمه، ويفترضون أن هذا الصانع المقصود كلّي القدرة، وكلّي العلم، وكلّي الإدراك وأبدي»[1].
ولاحظ كيف أن الحديث يشير إلى أن التغيير يأتي لاحقًا من الخارج - من الأبوين والمجتمع. هذا يؤكد أن الحالة الأصلية، الفطرة النقية، هي حالة التوحيد. فالشرك والعقائد الأخرى هي انحرافات عن هذه الفطرة الأصلية، تُفرض على الطفل من البيئة المحيطة.
هذا الفهم للفطرة يدعونا للتأمل في أهمية الحفاظ على نقاء الفطرة الإنسانية، وحمايتها من التشويه والانحراف. كما يذكرنا بأن العودة إلى التوحيد الخالص هي في الحقيقة عودة إلى أصل الإنسان وجوهره الحقيقي.
ب. لحظات الشدة: عودة الفطرة إلى نقائها
في أوقات الخطر والضيق، تتجلى حقيقة الفطرة الإنسانية بأوضح صورها. حتى أولئك الذين ابتعدوا عن الإيمان أو انغمسوا في الشرك، يجدون أنفسهم يتوجهون بقلوبهم إلى إله واحد. هذه الظاهرة ليست مجرد رد فعل عشوائي، بل هي عودة إلى أصل الفطرة وجوهرها.
يصور القرآن الكريم هذه الحالة بدقة متناهية في قوله تعالى: "فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ" [العنكبوت: 65]. هذه الآية تصور مشهدًا حيًا لعودة الإنسان إلى فطرته الأصلية في لحظات الخطر المحدق.
إن هذه الظاهرة تدعونا للتأمل في قوة الفطرة وأصالتها. فهي تؤكد أن التوحيد ليس مجرد عقيدة مكتسبة، بل هو الحالة الطبيعية والأصيلة للنفس البشرية. وأن الشرك، مهما بدا راسخًا، هو في حقيقته طارئ وغريب على الفطرة الإنسانية السليمة.
ولكن، قد يتساءل البعض: إذا كانت الفطرة تميل إلى التوحيد، فلماذا نجد الشرك منتشرًا في بعض المجتمعات؟
الجواب يكمن في أن الفطرة، رغم قوتها، يمكن أن تتعرض للتشويه والانحراف بسبب عوامل خارجية:
1. التأثير الاجتماعي: قد ينشأ الإنسان في بيئة تغرس فيه أفكارًا مخالفة للفطرة.
2. الجهل: عدم فهم حقيقة الكون قد يقود إلى تفسيرات خاطئة تؤدي إلى الشرك.
3. الهوى: قد يميل الإنسان إلى ما يوافق رغباته، حتى لو كان مخالفًا للفطرة.
4. التقليد الأعمى: اتباع الآباء والأجداد دون تفكير قد يؤدي إلى استمرار الشرك.
لكن، حتى في المجتمعات التي ينتشر فيها الشرك، نجد أن الناس في لحظات الصدق مع النفس، وخاصة في أوقات الشدة، يميلون إلى التوجه لإله واحد.
إن الشرك، في حقيقته، مناقض للفطرة السليمة. فهو يتعارض مع الإحساس الفطري بوحدة الكون وانسجامه، ويخالف المنطق السليم الذي يميل إلى التفسير الأبسط والأكثر اتساقًا للوجود.
ختامًا، دليل الفطرة يدعونا للتأمل في أعماق أنفسنا، واكتشاف ذلك الميل الفطري نحو التوحيد. إنه يؤكد أن الإيمان بالله الواحد ليس مجرد فكرة مكتسبة، بل هو جزء أصيل من تكويننا الإنساني. فهل نستمع لصوت الفطرة ونستجيب لندائها الصادق؟
2. دليل الوحي: اتساق رسالة التوحيد عبر الزمان والمكان
دليل الوحي يقدم برهانًا قويًا على وحدانية الله من خلال اتساق رسالة التوحيد عبر جميع الرسالات السماوية. هذا الاتساق، رغم اختلاف الزمان والمكان والظروف، يشكل دليلًا دامغًا على وحدة المصدر الإلهي.
منذ فجر التاريخ البشري، والأنبياء والرسل - من آدم إلى محمد عليهم السلام - يدعون إلى عبادة إله واحد. هذا الاتساق في جوهر الرسالة، رغم تباعد الأزمنة والأماكن، يؤكد على مصدرها الإلهي الواحد. يقول الله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" [الأنبياء: 25].
من المهم أن ندرك أن هؤلاء الأنبياء لم يأتوا بمجرد دعوى، بل جاؤوا بدلائل وبراهين تثبت صدقهم ونبوتهم. هذه الدلائل، التي تشمل المعجزات والنبوءات الصادقة والأخلاق السامية، تؤكد أن هؤلاء الأنبياء كانوا صادقين فيما بلغوه عن الله. وقد خصصنا قسماً كاملًا في الموقع لدلائل النبوة، يمكن الرجوع إليه للاستزادة.
والشاهد هنا أن من صدّق الأنبياء ووثق بصدق رسالتهم، فإنه يجب عليه الانقياد للحقيقة الواضحة التي جاؤوا بها جميعاً: أن الخالق واحد لا شريك له. فإذا كان هؤلاء الأنبياء صادقين فيما أخبروا به من غيبيات وأحكام، فإن إخبارهم بوحدانية الله هو من باب أولى أصدق وأحق بالقبول.
والأنبياء عاشوا في ظروف مختلفة تمامًا - ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا. ومع ذلك، ظلت رسالة التوحيد ثابتة لم تتغير. هذا الثبات يشير إلى مصدر واحد يتجاوز الظروف البشرية المتغيرة.
جميع الأنبياء رفضوا الشرك بكل صوره، سواء كان عبادة أصنام أو تقديس بشر أو طبيعة. هذا الرفض الموحد للشرك يؤكد على وحدانية المصدر الإلهي.
القرآن، باعتباره الكتاب الخاتم، يؤكد هذه الحقيقة من أوله إلى آخره. يقول تعالى: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۚ اللَّهُ الصَّمَدُ" [الإخلاص: 1-2]. هذه السورة القصيرة تلخص جوهر التوحيد بشكل واضح وصريح.
حتى الكتب السماوية السابقة، رغم ما طرأ عليها من تحريف، ما زالت تحمل في ثناياها دعوة التوحيد الخالص. مثال ذلك ما نجده في العهد القديم: "اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ" [سفر التثنية 6:4]. وفي الإنجيل، نجد المسيح عليه السلام يؤكد هذه الحقيقة بقوله: "إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ" [إنجيل مرقس 12:29].
ورسالة التوحيد التي جاء بها جميع الأنبياء تنسجم تمامًا مع الفطرة الإنسانية والعقل السليم. هذا الانسجام يؤكد صحة الرسالة ووحدة مصدرها.
الخاتمة:
في ختام رحلتنا الفكرية عبر دليلي الفطرة والوحي، نجد أنفسنا أمام برهان قوي ومتكامل على وحدانية الله. فمن جهة، يكشف دليل الفطرة عن الميل الطبيعي والأصيل في النفس البشرية نحو الإيمان بإله واحد. هذا الميل يتجلى في براءة الطفولة وفي لحظات الشدة، حيث تعود النفس إلى أصلها الفطري.
ومن جهة أخرى، يأتي دليل الوحي ليؤكد هذه الحقيقة الفطرية من خلال اتساق رسالة التوحيد عبر جميع الرسالات السماوية. فمنذ آدم إلى محمد عليهم السلام، كانت الدعوة واحدة: لا إله إلا الله. هذا الاتساق، رغم اختلاف الزمان والمكان، يشكل دليلاً دامغًا على وحدة المصدر الإلهي.
إن تناغم صوت الفطرة مع رسالة الوحي يقدم لنا برهانًا قويًا على وحدانية الله، يخاطب العقل والقلب معًا. فالتوحيد ليس مجرد عقيدة نظرية، بل هو حقيقة راسخة في أعماق الوجود الإنساني، أكدتها الرسالات السماوية عبر التاريخ.
وهكذا، فإن هذين الدليلين يدعواننا للتأمل العميق في عظمة الخالق ووحدانيته، ويحثاننا على الاستجابة لنداء الفطرة والوحي، بالإيمان بالله الواحد الأحد، الذي لا شريك له ولا نظير.
[1] فطرية الإيمان -كيف أثبتت التجاترب أن الطفال يولدون مؤمنين بالله – (20 – 21).